
اللطيـــف جلَّ جلاله
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
( اللطيـــف جلَّ جلاله ) :
سبحــــان اللطيف الخبيــــر .. يرفق بعبـــاده ويلطف بهم ، يرزق من يشــاء بغير حســـاب ومنعه هو خيـــر العطــــاء .. يعلم مصالح جميع الخلائق ؛ الجن والإنس والطير والحيوان والجماد والنبـــات ، ثم يسلك سبيلَ الرفق في إيصال هذه المصالح إلى مستحقِّها دون العُنْف ..
ولو نظر الإنسان إلى الكون من حوله ، لوجد آثـــار لطف الله تعالى بخلقه واضحةً جليَّة .. ولوجد المرءَ نفسه في نهاية العجز ، واللهُ تعالى في نهاية اللطف ، ولطفُه به هو الذي جعله على هذا الحال الحسن ، فليس لك إلا أن تدعوه سبحــــانه قائلاً : يـــــا لَطِيــــــف .. الْطُفْ بِنـــــا ..
المعنى اللغوي :
اللطيف في اللغة : صفة مشبهة للموصوف باللطف ، فعله : لطف يلطف لطفًا ، ولطف الشيء رقته واستحسانه وخفته على النفس ، ويطلق على الشيء الخفي المحجوب ..
ويقال اللطف : الرقة والحنان والرفق .. فاللطيف من أسماء الجمال لله سبحانه وتعالى .
ورود الاسم في القرآن الكريم :
ورد اسم الله تعالى اللطيـــف سبع مرات في القرآن الكريم ، منها قوله تعالى :\” لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ \” [الأنعام:103] .. وقوله جلَّ وعلا \” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ \” [الملك:14] وقوله تعالى \” .. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ \” [يوسف:100] .. وقوله \” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ \” [الحج:63] .
معنى الاسم ودلالته في حق الله تعالى :
المعنى الأول : اللطيف سبحانه هو الذي اجْتَمع له العلمُ بدَقائق المصَالح وإيصَالها إلى مَن قدرها له مِن خَلقهِ مع الرفق في الفِعْل والتنفيذ ..
قال تعالى \” اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ .. \” [الشورى:19] .
فالله لطيفٌ بعباده رفيقٌ بهم قريبٌ منهم ، يعامل المؤمنين بعطف ورأفة وإحسان ، ويدعو المخالفين إلى التوبة والغفران مهما بلغ بهم العصيان ، فهو لطيف بعباده يعلم دقائق أحوالهم ، ولا يخفى عليه شيء مما في صدورهم ، قال تعالى : \” أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ \” [الملك:14] وقال لقمان لابنه وهو يعظه : \” يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ \” [لقمان:16] .
ولم يقترن اسم الله اللطيف إلا باسمه الخبير .. فالله تعالى يطلِّع على بواطن الأمور ويلطف بعباده ، فلا يُقدِر لهم إلا ما فيه الخير .. وقد يخفى على العبد هذا الخير ، فيُقابل قضاء الله بالاعتراض .. والله تعالى يقول :\” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ \” [الملك:14] .
يقول ابن القيم : \” ما يَبْتَلِي الله بهِ عبادَهُ من المصائبِ ، وَيَأْمُرُهُم بهِ من المكارهِ ، وَيَنْهَاهُم عنهُ من الشَّهَوَاتِ ، هيَ طُرُقٌ يُوصِلُهُم بها إلى سعادتِهِم في العاجلِ والآجلِ ، وقدْ حُفَّت الجنَّةُ بالمكارهِ ، وَحُفَّت النارُ بالشهواتِ .
وقدْ قَالَ : \” عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ\” [مسلم] .
فالقضاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ لِمَنْ أُعْطِيَ الشكرَ والصبرَ جَالِبًا ما جَلَبَ ..
وكذلكَ ما فَعَلَهُ بآدَمَ وإبراهيمَ وموسَى وعيسَى ومحمَّدٍ من الأمورِ التي هيَ في الظاهرِ مِحَنٌ وابتلاءٌ ، وهيَ في الباطنِ طُرُقٌ خَفِيَّةٌ أَدْخَلَهُم بها إلى غايَةِ كَمَالِهِم وَسَعَادَتِهِم \” [شفاء العليل] .
المعنى الثاني : اللطيف هو الذي ييسر للعباد أمورهم ويستجيب منهم دعائهم ، فهو المحسن إليهم في خفـــاء وستر من حيث لا يعلمون .
فنعم الله تعالى عليهم سابغة ظاهرة لا يحصيها العادُّون ولا ينكرها إلا الجاحدون ، وهو الذي يرزقهم بفضله من حيث لا يحتسبون : \” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ \” [الحج:63] وقال سبحانه : \” اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ \” [الشورى:19] كما أنه يحاسب المؤمنين حسابًا يسيرًا بفضله ورحمته ، ويحاسب غيرهم من المخالفين وفق عدله وحكمته .
المعنى الثالث : اللطيف الذي لطف عن أن يُدرك ، وهو لطف الحجاب لكمال الله وجلاله .
فإن الله لا يُرى في الدنيا لطفًا وحكمة ، ويُرى في الآخرة إكرامًا ومحبة .. ولذلك قال عن رؤية الناس له في الدنيا : \” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ..\” [الشورى:51] وقال سبحانه : \” لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ \” [الأنعام:103] .
يقول الإمام ابن القيم : وهوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ … واللطفُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ :
إدراكُ أسرارِ الأمورِ بِخِبْرَةٍ … واللطفُ عندَ مَوَاقِعِ الإحسانِ
فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ … والعبدُ في الغَفَلاتِ عنْ ذا الشَّانِ [القصيدة النونية] .
حظ المؤمن من اسم الله تعالى اللطيــــف :
1) أن يتلطف بالمسلمين ويحنو على اليتامى والمساكين والضعفاء :
ويسعى للوفاق بين المتخاصمين ، وينتقي لطائف القول في حديثه مع الآخرين ، ويَبَش في وجوههم ، ويحمل قولهم على ما يتمناه من المستمعين ؛ فإن الظن أكذب الحديث .
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : \” يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ \” [مسلم] .
فلابد على العبد أن يكون هينًا لينًا .. عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \” ألا أخبركم بمن يحرم على النار ومن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هين سهل \” [رواه الترمذي وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب] .
وعن عبد الله بن الحارث بن حزم قال : \” ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله \” [رواه الترمذي وصححه الألباني] .
2) السعي في طلب العلم والفهم عن الله تعالى :
فإذا عَلِمَ العبد أن الله سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصَغُر ، أو خفي وكان في مكانٍ سحيـــق .. فعليه أن يؤمن بكمال علم الله وإحاطته ، وأنه لن يُحيط بشيءٍ من علمه إلا بما شاء سبحانه وتعالى .. فينبغي عليه أن يسعى في طلب العلم؛ لمحاولة فهم أسرار الحيــاة حتى يزداد إيمانًا ويقينًا .
وحين يشعر المؤمن بالعجز عن معرفة بعض الأمور أو الحكمة منها، يزداد تعبدًا وذلاً لله تعالى .. وحين يطلعه الله تعالى على بعض المعرفة، يزداد يقينًا وشكرًا لله سبحانه وتعالى .
3) المحــــــاسبة والمراقبة :
وإذا عَلِمَ العبد أن ربَّه متصفٌ بدقة العلم ، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، حــــاسب نفسه على أقواله وأفعاله ، وحركاته وسكناته ؛ لإنه يعلم في كل وقتٍ وحين أنه بين يدي اللطيـــف الخبيــر .. \” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ \” [الملك:14] .
والله سبحانه يجازي الناس على أفعالهم يوم الدين ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر .. قال تعالى : \” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ \” [الأنبياء:47] وقال تعالى : \” فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ \” [الزلزلة:7-8] فحـــــاسبوا أنفسكم قبل أن تُحــــــاسبوا .
4) حب الله عزَّ وجلَّ ، إذ لطف بك وســــاق لك الرزق وأعطاك ما تحتاجه في معاشك :
فحينما يتأمل لطف الله سبحانه وتعالى بعباده وأنه يريد بهم الخير واليسر ، ويُقيض لهم أسباب الصلاح والبر .. يزداد تعلقًا به سبحانه وتعالى ، ويزداد حبهُ له .
5) الذل والانكســار :
فإذا أردت أن يعاملك الله سبحانه وتعالى بلطفه ، عليك أن تذل وتنكسر بين يديه .. تضــــاعف ما استطعت ، فإنَّ اللطف مع الضعف أكثر .
الدعـــاء باسم الله اللطيف :
لم يرد دعاءً مأثورًا بهذا الاسم أو الوصف ، إلا ما ورد عند الطبراني وضعفه الألباني من حديث أبي هريرة مرفوعًا : \” اللهم الطف بي في تيسير كل عسير ؛ فإن تيسير كل عسير عليك يسير ، وأسألك اليسر والمعافاة في الدنيا والآخرة \” [ضعيف الجامع] .
ويمكن الدعاء بمقتضى ما ورد في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام : \” وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ \” [يوسف:100] .
كأن يقول : اللهم إنك لطيف لما تشاء وأنت العليم الحكيم ارفع عني البلاء والشقاء وأعذني من الشيطان الرجيم .